Table of Contents
د. سيباستيان زونس
واجهت العلاقات بين العالم العربي وألمانيا في الأشهر الأخيرة تحديات جدّية نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة التي أسفرت عن سقوط أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و 1200 قتيل إسرائيلي في أعقاب هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وفي هذا السياق، تحوّلت العلاقة التاريخية لألمانيا مع إسرائيل لتصبح موضوع خلاف ساخن.
ففي كلمة لها عام 2008 أمام الكنيست الإسرائيلي، وصفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أمن إسرائيل بأنه “مصلحة عليا” لألمانيا، وهو ما كرره المستشار أولاف شولتس بعد خمسة أيام من هجوم حماس على إسرائيل: “في هذه اللحظة، هناك مكان واحد فقط لألمانيا: وهو الوقوف بحزم إلى جانب إسرائيل. هذا ما نعنيه عندما نقول إن أمن إسرائيل كان وسيظل الموجّه الرئيسي لسياسة الدولة الألمانية”. إن الالتزام تجاه إسرائيل هو أكثر من مجرد هدف سياسي، بل هو عنصر أساسي في بديهيات السياسة الألمانية. كما تم النصّ عليه صراحةً في اتفاق الائتلاف الحكومي الحالي المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الليبرالي.
ترى بعض الدول العربية أن موقف ألمانيا من الحرب على غزة مؤيدٌ لإسرائيل ومنحازٌ لها. ونتيجة لذلك، أصبح الاستقطاب والرفض يهيمنان على العلاقات السياسية والعلاقات فيما بين منظمات المجتمع المدني، مما أدى إلى تنامي النفور بين ألمانيا وشركائها العرب. فعلى سبيل المثال، قررت بعض المنظمات العربية الشريكة للمراكز البحثية التابعة للأحزاب الألمانية إما تقليص أو قطع علاقات العمل مع نظيراتها الألمانية بسبب تباين المواقف من دور إسرائيل في حرب غزة، حيث تعاني ألمانيا من “أزمة مصداقية هائلة“. علاوة على ذلك، فُسرت تصريحات مسؤولين ألمان رفيعي المستوى، وأعضاء في الحكومة الألمانية بعد فترة وجيزة من تصاعد التوتر في السابع من أكتوبر على أنها تعبير عن “ازدواجية المعايير” الألمانية التي تغض الطرف عن مأساة الفلسطينيين وتتخذ موقفاً حاسماً في تأييده لإسرائيل.
في الأشهر الأخيرة، أصبح النقاش الداخلي في ألمانيا حول التدخل العسكري الإسرائيلي أكثر تنوعاً ودقةً، وهو ما يدل عليه تقييم أكثر تمايزاً لمصطلح (المصلحة العليا / Staatsräson) ففي مارس/آذار، رأى 50% من الشعب الألماني أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ”تتجاوز الحدود“. ومع ذلك، لا يزال المراقبون يلومون الحكومة الألمانية على ترددها في انتقاد التدخل الإسرائيلي في غزة ويطلقون على ذلك ”المعضلة الألمانية“. فمن ناحية، تلتزم ألمانيا بأمن إسرائيل، ومن ناحية أخرى، عليها أن تساعد في منع قتل المدنيين في غزة. ومن ثم، فإن الحرب على غزة تضع الحكومة الألمانية على المحك وتزعزع مصداقيتها في أجزاء واسعة من العالم العربي لأنها لا تعترف بما فيه الكفاية بمعاناة أهل غزة من الهجمات الإسرائيلية. وبالإضافة إلى ذلك، اتُهمت ألمانيا بأنها منحت إسرائيل تفويضاً مطلقاً لعملياتها العسكرية في غزة.
في السياق الأوسع، لم تبدأ هذه الفترة من الاغتراب بعد السابع من أكتوبر فحسب، بل قبل ذلك: فعلى سبيل المثال، أجج النقاش المثير للجدل في ألمانيا حول بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 في قطر التوتر العام مع قطر ودول عربية أخرى. ففي ألمانيا، تعرضت قطر لانتقادات في وسائل الإعلام بسبب مزاعم انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والاستغلال الهيكلي للعمال المهاجرين، وعدم المساواة للمرأة ومجتمع المثليين. وطالبت منظمات حقوق الإنسان والنقابات العمالية بإصلاحات عمالية شاملة لحماية العمال الأجانب. وحظيت الدعوات لمقاطعة كأس العالم بدعم بعض مبادرات المشجعين. ومع ذلك، وفي ظل هذا الجدل المستقطب أصبحت خطوط النقد المختلفة غير واضحة: ففي كثير من الأحيان، اختلط الجدل حول حقوق الإنسان بانتقادات جوهرية لأوضاع كرة القدم التجارية، وفساد اتحادات كرة القدم وعزلة الجماهير عن ”لعبتهم الجميلة“، وهو ما تم التعبير عنه من خلال استغلال قطر ككبش فداء للإفراط في تسويق كرة القدم العالمية. وفي المقابل، وُصف هذا النقاش في قطر بأنه ازدواجية في المعايير، وغطرسة وغرور أوروبي، وتجاهل لحق الشعوب الأخرى. وقبل انطلاق البطولة، في أكتوبر 2022، اتهم أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، الانتقادات الأوروبية بأنها حملة غير مسبوقة. كما عبّر العديد من الأشخاص في العالم العربي عن تضامنهم مع قطر على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام العربية تحت وسم #أنا_عربي_وأنا_أشجع_قطر. خلال كأس العالم، تضاءلت صورة الغرب في العالم العربي بشكل أكبر، وفي الفضاءات العامة مثل وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت المشاعر المعادية للغرب بارزة بشكل أكبر . وعلى وجه الخصوص، وُصفت الاتهامات الألمانية بالنفاق وعدم الاحترام وكراهية الإسلام. وهنا، أدت فضيحة وزيرة الداخلية الألمانية، التي ارتدت شارة ”حب واحد“ إلى زيادة حدة المشاعر المعادية لألمانيا، وتقديم احتجاج رسمي لدى السفير الألماني في قطر في ديسمبر 2022 ، حول أن مثل هذه التصرفات تقوّض العلاقات السياسية والتجارية الثنائية، وتضّر بسمعة ألمانيا في قطر وخارجها.
1. 1- الرقص الألماني على الحبال: فترة انتقالية في السياسة الخارجية
في الواقع، تجد السياسة الخارجية الألمانية نفسها في معضلة مفتوحة: فهي تروّج من ناحية لنهج قائم على القيم، وتعرّف حقوق الإنسان العالمية على أنها ”أهم درع لكرامة الفرد“، كما جاء في اتفاق الائتلاف الحاكم. ومن ناحية أخرى، ترى وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك أن ”القيم والمصالح لا تتعارض مع بعضها البعض“، ولكنه من الواجب على ألمانيا اتخاذ “موقف واضح” في عالم متغير. يمكننا العثور على هذا النهج أيضاً في “المبادئ التوجيهية للسياسة الخارجية والتنموية النسائية“، التي قدمتها وزارة الخارجية الألمانية بشكل مشترك مع وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية في 1 فبراير 2023. وتركز كلتا الاستراتيجيتين على الإدماج والمشاركة والمساواة بين الجنسين وفهم أكثر شمولية للأمن بما في ذلك الأمن المناخي والصحي، والهدف المتمثل في الحد من عدم المساواة في السلطة في شكل النظام الأبوي والعنصرية والتمييز على أساس الجنس والقدرة والطبقية.
في الواقع، تجد السياسة الخارجية الألمانية نفسها في معضلة مفتوحة: فهي تروّج من ناحية لنهج قائم على القيم، ومن ناحية أخرى، ترى وزيرة الخارجية بيربوك أن القيم والمصالح لا تتعارض مع بعضها البعض
بالإضافة إلى هاتين الاستراتيجيتين، تقدم استراتيجية الأمن القومي الألمانية الأولى التي تم إقرارها في يونيو 2023 تعريفاً متكاملاً للأمن. في زمن النظام العالمي متعدد الأقطاب والأزمات الدولية المتزايدة، يتعين على ألمانيا أن تتصرف بطريقة قوية ومرنة ومستدامة من خلال الدفاع عن النظام الدولي. يجب تنويع العلاقات التجارية وإعداد المجتمع لمواجهة التحديات المتزايدة مثل المنافسات الممنهجة، أو الأوبئة أو تغير المناخ. تُعد هذه الاستراتيجية من وجهة نظر الحكومة، بمثابة “بوصلة” لتحقيق هذا الغرض، كما كتب المستشار أولاف شولتس في مقدمته، في حين وضعت بيربوك “أمن الحريات” على قمة سلم الأهداف الواجب تحقيقها. تجد ألمانيا نفسها اليوم في مرحلة “تحوّل جوهرية“ كما وصفها المستشار شولتس بعد بدء الحرب ضد أوكرانيا في فبراير 2022. لقد انهارت اليقينيات القديمة منذ ذلك الحين، وأصبح على ألمانيا أن تجد موقعها في نظام عالمي جديد.
2. 2- التعامل مع الشرق الأوسط: الافتقار إلى استراتيجية شاملة
على الرغم من مثل هذه الجهود الرامية لوضع تصور استراتيجي للسياسة الخارجية في صناعة القرار الألماني، إلا أن العالم العربي وخاصة منطقة الخليج لم يتم التطرق إليها بالتفصيل. فحتى الآن تفتقر ألمانيا إلى رؤية واضحة وذات مصداقية لموقعها في العالم وخاصة في الشرقين الأدنى والأوسط. ويجري هذا النقاش في دوائر صنع السياسة الخارجية بالفعل، ولكن لم يتم التوصل إلى نتيجة شاملة حتى الآن. وتظهر هذه الحقيقة مرة أخرى أن ألمانيا أهملت الأهمية الجيوسياسية للعالم العربي في مفهوم سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة. وإذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ السياسة الخارجية الألمانية منذ إعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية عام 1990، نرى بأن هناك أسباباً أكثر تعقيداً وراء هذا الإهمال، تتجاوز مجرد الجهل وعدم الاهتمام. فتماشياً مع الولايات المتحدة، هيمنت الشراكة عبر الأطلسي على السياسة الخارجية والأمنية لألمانيا، في حين أصبح موضوع الاندماج في الاتحاد الأوروبي الركيزة الثانية للسياسة الخارجية الألمانية. إذ كانت تعددية الأطراف وأوروبا والشراكة عبر الأطلسي، ولا تزال، تمثّل محركات رئيسية لعمل السياسة الخارجية الألمانية في العقود الأخيرة. ونتيجة لذلك، ركزت ألمانيا على القوة الناعمة والتعاون الثقافي والتنموي الخارجي بدلاً من التركيز على نهج سياسة مستقلة تجاه الشرق الأوسط. فبعد التجارب المؤلمة التي عاشتها في ظل النظام النازي، أرادت ألمانيا أن يُنظر إليها في العالم على أنها لاعب أخلاقي – أو كـ “ألماني صالح” – وليس كقوة عظمى حازمة. وهكذا أصبح انتهاج السلوك الأخلاقي هو سبب وعلّة وجود ألمانيا كقوة سلمية ومدنية.
يتوجب على ألمانيا بوصفها مدافعة عميقة عن سيادة القانون الدولي، أن تتحمل المسؤولية الإنسانية والسياسية تجاه الشعب في غزة
ولكن في ظل التآكل الجوهري للنظام العالمي القديم وفي ضوء الحرب في غزة، أصبح هذا النهج التقليدي اليوم على المحك أكثر من أي وقت مضى. ولذلك فإن الأمر الأكثر إلحاحاً اليوم بالنسبة لألمانيا، يتمثّل في وضع استراتيجية شاملة تأخذ بعين الاعتبار علاقتها الخاصة مع إسرائيل، وتدعم بذلك أيضاً إطلاق نقاش متعدد الأبعاد حول مفهوم “المصلحة العليا”، لا سيما أن المعنى الملموس لهذا المصطلح وآثاره ستبقى مبهمة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يتوجب على ألمانيا بوصفها مدافعة عميقة عن سيادة القانون الدولي، أن تتحمل المسؤولية الإنسانية والسياسية تجاه الشعب في غزة. خاصة أن العالم العربي قد برز مؤخراً بوصفه منطقة ذات صلة بمصالح ألمانيا على وجه الخصوص، من الناحية الجيوستراتيجية، ومن ناحية أمن الطاقة والاقتصاد.
حتى قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تم التعبير في أكثر من مناسبة ومن قبل أكثر من طرف عن ضرورة اضطلاع ألمانيا بـ”وظيفة المرساة“ في السياسة الخارجية، ولكن هذه الدعوات أصبحت أكثر إلحاحاً في الأشهر الأخيرة. وفي الواقع فإن السياسة الخارجية الألمانية تفتقر في الغالب إلى الخبرة والقدرات المالية والموارد البشرية، الأمر الذي يحّد أيضاً من ممارسة عمل استباقي وبنّاء وشامل في العالم العربي. وعلى الرغم من سعي الحكومة إلى شد أواصر السياسة الخارجية وتصميمها بشكل أفضل، إلا أن تضخم العمليات الإدارية ونقص الكوادر في الوزارات والهيئات الثقافية والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات الأمنية، بالإضافة إلى التنافس القائم بين الوزارات والإدارات المختلفة، يحول دون اتخاذ إجراءات فعالة وطويلة الأجل في مجال صنع القرار.
3. 3- المصلحة المتبادلة في التهدئة: الحاجة إلى تعزيز التعاون الألماني – العربي
في ضوء التصعيد الحالي في الشرقين الأدنى والأوسط، تكشّفت أوجه القصور هذه أمام المسرح الدولي، وهو ما أدى إلى زيادة التباعد بين ألمانيا والعالم العربي. ونتيجة لذلك، فإن أجواء النفور وعدم الثقة لا تسهم في إيجاد حل للصراعات المتعددة في المنطقة، كما أنها لا تخدم المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية المتعددة في ألمانيا والعالم العربي. وفي ظل التوترات الإقليمية المتزايدة والتصعيد المتزايد بين إسرائيل وإيران، ينبغي على ألمانيا والشركاء العرب الانخراط في تعزيز التواصل والحوار، مع اهتمام الطرفين الجاد بتهدئة الأوضاع. وبالفعل، تجري اتصالات منتظمة على مستويات سياسية رفيعة المستوى كما يتضح من الرحلات الرسمية التي يقوم بها المستشار أولاف شولتس ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك وغيرهما من السياسيين الألمان إلى المنطقة والجهود الجادة لتعزيز ”دبلوماسية الأزمات“ على مستوى متعدد الأطراف. وفي هذا الإطار، تناقش ألمانيا وشركاؤها في العالم العربي حلولاً للصراع وإجراءات ملموسة مثل تقديم مساعدات كبيرة لغزة أو تنفيذ وقف إطلاق النار. ولا تزال قنوات التواصل على المستوى السياسي والثقافي والاقتصادي مفتوحة بفضل الشبكات الراسخة والشراكات الموثوقة بين ألمانيا ونظرائها في العالم العربي. وعلى الرغم من تراجع الثقة المتبادلة وتباين المواقف بشأن الأزمات الإقليمية، إلا أن الطرفين مهتمان بالاستمرار في الحوار الوثيق، وإيجاد سبل لحل النزاعات، وتعزيز الجهود الدبلوماسية.
وفي ظل التوترات الإقليمية المتزايدة والتصعيد المتزايد بين إسرائيل وإيران، ينبغي على ألمانيا والشركاء العرب الانخراط في تعزيز التواصل والحوار، مع اهتمام الطرفين الجاد بتهدئة الأوضاع
وعلى المستوى الاقتصادي، ستستمر المصالح التجارية في دفع عجلة التعاون بين ألمانيا ودول المنطقة. وتقليدياً، هيمنت المصالح الاقتصادية وسياسة الطاقة بشكل رئيسي على العلاقات الألمانية – العربية، والخليجية بشكل خاص، لاسيما في ظل الحاجة المتزايدة لتنويع مصادر الطاقة الألمانية منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا. ومن المرجح أن تستمر هذه الرغبة في تعزيز التعاون، وبالتالي يمكن أن تخلق المزيد من المنصات لإجراءات بناء الثقة. وعلى الجانب العربي، فقدت ألمانيا في السنوات الأخيرة جاذبيتها كشريك اقتصادي واعد، لكنها لا تزال تحتل مكانة بارزة كشريك تجاري واستثماري. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على دول الخليج العربي. ففي عام 2021، بلغت القيمة الإجمالية للواردات والصادرات بين ألمانيا ودول الخليج 18.9 مليار يورو، حيث ساهمت الصادرات الألمانية بمبلغ 13 مليار يورو في الميزان التجاري. تعد الإمارات العربية المتحدة أهم شريك تجاري لألمانيا في الخليج بقيمة 8 مليار يورو، تليها المملكة العربية السعودية بقيمة 6.6 مليار يورو. في عام 2019، قبل بطولة كأس العالم في قطر، احتلت ألمانيا المرتبة الخامسة في قائمة أهم الشركاء التجاريين لقطر بعد الولايات المتحدة والصين، حيث صدّرت سلعاً بقيمة1.5 مليار يورو. وفي قطاعي البناء والآلات وكذلك في قطاعي الهندسة والخدمات، أتاحت بطولة كأس العالم للشركات الألمانية فرصاً ممتازة لدخول السوق القطرية، حيث وصل عدد الشركات الألمانية الناشطة فعلياً قبل المونديال في قطر إل. أكثر من 150 شركة ألمانيةً في عام 2021. من ناحية أخرى، استثمرت قطر أكثر من 25 مليار يورو في الشركات الألمانية. تشهد دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية تحولاً اجتماعياً واقتصادياً جوهرياً وهي في حاجة ماسة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر والشراكات التجارية وتوثيق التعاون في نقل المعرفة والتبادل التعليمي من أجل تنويع اقتصادها الريعي بعيداً عن النفط والغاز وخلق فرص عمل للأجيال الشابة. وعلى الرغم من تركيز الدول الخليجية المتزايد على الشركاء الآسيويين مثل الصين وكوريا واليابان، واغترابهم السياسي، وكذلك الخطابي البلاغي عن أوروبا، لا تزال الشركات الأوروبية مثل الألمانية تحتل مكانة بارزة في محفظة شراكاتها الاقتصادية. وبدورها دخلت ألمانيا في نماذج تعاون أوثق مع دول الخليج الغنية بالطاقة منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، بهدف تنويع مصادر الطاقة لديها. فقبل الحرب، كانت ألمانيا تحصل على 55% من إمداداتها من الغاز من روسيا، الأمر الذي خلق بدوره تبعية سياسية إشكالية للغاية. وفي سياق استراتيجيتها الوطنية للتحول في مجال الطاقة، تهدف ألمانيا إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 65% بحلول عام 2030، وزيادة حصة الطاقات المتجددة في توليد الكهرباء إلى 80% وتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2045. وبالتالي من المقرر أن يصبح الهيدروجين عنصراً رئيسياً في مزيج الطاقة الألماني.
في يونيو 2020، أطلقت الحكومة الألمانية آنذاك الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين، بهدف توفير إطار لتوليد الطاقة القائمة على الهيدروجين، وتأمين الواردات اللازمة منه. وفي الوقت نفسه تأمل دول الخليج مثل سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والإمارات في ترسيخ مكانتها كدول إقليمية رائدة في مجال الهيدروجين، وهو الأمر الذي عزز أيضاً فرص التعاون الألماني-الخليجي في مجال الطاقة. في مارس 2021، وقعت ألمانيا والمملكة العربية السعودية على الحوار الألماني السعودي في مجال الطاقة لتعزيز التعاون الثنائي في إنتاج ونقل الهيدروجين، وفي فبراير 2022، افتتحت ألمانيا “مكتب دبلوماسية الهيدروجين” في العاصمة السعودية الرياض بالتعاون مع المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ). كما توجد نماذج شراكة مماثلة مع قطر وعمان والإمارات. وقد تجسد الاهتمام الألماني المتزايد بالتعاون في مجال الطاقة مع دول الخليج في زيارة روبرت هابيك، وزير الاقتصاد وشؤون المناخ، في مارس 2022 إلى قطر والإمارات. كما تركّزت الزيارة الأولى للمستشار شولتس إلى الرياض وأبوظبي وقطر في سبتمبر 2022،على أمن الطاقة والتعاون الاقتصادي. وخلال تلك الفترة، جرت مفاوضات شاقة بين قطر وألمانيا قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق بين البلدين. ففي سبتمبر 2022، اتفقت الدوحة وبرلين على شراكة أكثر شمولاً في مجال الطاقة، وبموجبها ستشتري ألمانيا الغاز الطبيعي المسال من شركة قطر للطاقة المملوكة للدولة عبر شركة كونوكو فيليبس الأمريكية لمدة 15 عاماً اعتباراً من عام 2026.
4. 4- ضرورة تعزيز الحوار :إدارة التوقعات، والاحترام والتعاطف
على الرغم من هذا الحوار السياسي المستمر والتعاون في الميدان الاقتصادي ومجال الطاقة، إلا أنه لا توجد استراتيجية ألمانية متماسكة تجاه الشرق الأدنى والأوسط. فبدلاً من مجرد رد الفعل على الأزمات الراهنة، يُنتَظَر من ألمانيا اتخاذ موقفٍ واضحٍ وموثوق بشأن الوضع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبالتالي، فإن ألمانيا تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى نقاش منفتح ومراجعة ذاتية، ونقد ذاتي يعيد صياغة سياستها الخاصة في الشرقين الأدنى والأوسط. ومن المؤكد أن العلاقة الخاصة مع إسرائيل ستكون في صميم هذا النهج، إلا أنه من الواجب عدم إهمال المسؤولية الإنسانية تجاه ضحايا حرب غزة، وكذلك عدم إهمال المصلحة الألمانية نفسها في تعزيز الاستقرار الإقليمي طويل الأمد، وتهدئة الأوضاع في المنطقة. لذلك فإنه من الضروري المواءمة بين القيم والمصالح بشكل أفضل بدلاً من التعامل معها على أنها متناقضة فيما بينها. لقد فقدت ألمانيا قدراً كبيراً من الثقة في المنطقة ويجب أن تحاول استعادتها. ولتحقيق هذه الغاية، من المهم أن تشرح ألمانيا موقفها بشكل أوضح من خلال الإشارة إلى الوضع المعقد الذي تجد نفسها فيه. فعملية “التحول التاريخي” لا تحتاج إلى موارد كثيفة وقدرات مالية ولوجستية وعسكرية وبشرية وحسب، وإنما تتطلب تغيير في العقلية والاستراتيجية.
وفي ظل تنامي انعدام الثقة، يجب دعم منصات التواصل والحوار السياسي والاجتماعي والعام من أجل خلق مساحات آمنة للنقاش المفتوح والتبادل النقدي. ولا يقتصر الأمر هنا على الاقتصاد والدبلوماسية فحسب، بل يجب إشراك مبادرات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والجهات الفاعلة في مجال التعاون الإنمائي، والصحفيين والناشطين الإعلاميين من أجل تعزيز المناقشات المفتوحة والنقدية.
وعلى هذه الخلفية، ينبغي تشجيع الخبراء في مجال الحوار والوساطة وكذلك مبادرات حل النزاعات ومراكز الفكر على إطلاق المزيد من المنصات والمشاريع التي تهدف إلى الجمع بين الناس من ألمانيا ومنطقة الشرق الأدنى والشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، هناك حاجة إلى المزيد من المشاريع لإشراك شركاء من ألمانيا (والدول الأوروبية الأخرى) والدول العربية للتغلب على الصور النمطية القائمة والعمل على خلق فهم مشترك. وقد تعرضت المبادرات والمؤسسات القائمة للانتقادات في سياق الحرب على غزة. وفي ظل هذه الخلفية، يحتاج الخبراء من الأوساط الأكاديمية والبحثية، والأعمال التجارية، والمنظمات غير الربحية، والثقافة والفنون، والإعلام، وسياسات الهجرة والتعاون الإنمائي، والرياضة، والسياحة، والترفيه، إلى مناقشة الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، من أجل تحديد فرص التعاون الأوثق على مستوى متعدد التخصصات. من المؤكد أن الاستقطاب الحالي يخلق توترات، ونقصاً في التفاهم من كلا الجانبين، ولكن يبدو أن التعلم من بعضنا البعض والاستماع إلى بعضنا البعض هو اليوم أهمّ من أي وقت مضى. فحتى الآن، لا تزال العديد من ورش العمل أو المؤتمرات أو الحلقات النقاشية تعقد مع مجموعة صغيرة من “النخب المعروفة”، و”صانعي الرأي” من الباحثين والمشورة السياسية والسياسة والإعلام، بينما لا يتمكن الوافدون الجدد والمواهب الصغيرة من الوصول إلى هذه الدوائر إلا تدريجياً. وفي كثير من الأحيان، يجري العمل العلمي والنشاط المدني والاقتصادي في مجموعات منعزلة، الأمر الذي يحول دون خلق حالة من التبادل بين التخصصات والاهتمام العام على نطاق واسع. لذلك، تحتاج الدبلوماسية الثقافية الألمانية أيضًا إلى إعادة تقييم استراتيجي لدفع عجلة عملية بناء الثقة وكسب القلوب والعقول في العالم العربي. وينبغي أن يكون هذا النموذج البنّاء في التواصل والتعاون مدفوعاً بإدارة واقعية للتوقعات المتعلقة بحل النزاعات، والالتزام بالحوار، والاحترام المتبادل والعمل المشترك والشامل، والتعاطف مع المواقف المتعارضة ووجهات النظر المختلفة حيال القضايا الشائكة.
تحتاج الدبلوماسية الثقافية الألمانية أيضًا إلى إعادة تقييم استراتيجي لدفع عجلة عملية بناء الثقة وكسب القلوب والعقول في العالم العربي
وفي الواقع، فإنه من المرجّح أن تطغى العداوات السياسية في كفة الميزان. وهنا، يجب على ألمانيا أن تتواصل بشكل أفضل وتشرح بشكل أفضل، ماهية الدوافع القائمة وراء عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الألمانية. إذ لا يزال العالم العربي يفتقر إلى المعرفة والخبرة بشأن تعقيدات عملية صنع القرار الألماني، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء الفهم. في بعض الأحيان، يسود الانطباع بأن ألمانيا باعتبارها أهم قوة اقتصادية في أوروبا تمتلك بشكل شبه تلقائي القدرات اللازمة لاتّباع سياسة خارجية وأمنية استباقية. ففي العديد من المناقشات في العالم العربي، يشعر الشركاء العرب بالدهشة والامتعاض من أن ألمانيا، على الرغم من قوتها الاقتصادية، لا تبدو مهتمة و/أو قادرة على زيادة انخراطها في المنطقة بسبب نقص القدرات المالية والبشرية والخبرات والشبكات المؤسساتية. علاوة على ذلك، فإن الخلفية التاريخية والتعقيدات المتعددة لعلاقات ألمانيا الوثيقة مع إسرائيل غير معروفة بتفاصيلها في منطقة الخليج، ولم يتم إيصالها بشكل شامل من الجانب الألماني. ونتيجة لذلك، فإن هذا النقص في المعرفة يخلق حالة من عدم الثقة من كلا الطرفين. ولذلك، يجب على الأطراف السياسية المعنية، ووسائل الإعلام، والخبراء، وغيرهم من أصحاب المصلحة إيجاد طريقة عمل لمناقشة المواضيع الخلافية باحترام والتزام جاد لإيجاد حلول ملموسة. إن إلقاء اللوم لا يساعد ضحايا الحرب في غزة ولا يؤدي إلى تهدئة الأوضاع. بل على العكس، يمكن لدعاة الحرب في إيران وإسرائيل وأماكن أخرى أن يستفيدوا من هذه التوترات. وفي ظل هذه الخلفية، ينبغي الكلام بشكل صريح وواضح بشأن الخطوط الحمراء لدى كل من الطرفين، بهدف إدارة التوقعات بشكل صحيح، والحيلولة دون المغالطات الهدّامة. وتتمثل المجالات الملموسة للتعاون المتبادل في الحوار الدبلوماسي، والتبادل السياسي، وكذلك التعاون الاقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة إلى تعزيز تنسيق الجهود الإنسانية في غزة، وتعزيز مشاريع التبادل الثقافي والشعبي وتكثيف الجهود من أجل إعادة بناء الثقة المحطمة لدى الجانبين.
وبالفعل، تتباين وجهات النظر حول حرب غزة بين الجانبين، إلا أن المصلحة الشاملة في تحقيق الاستقرار الإقليمي وضوعة على سلم الأولويات لدى الجانبين الألماني والعربي. ومن المؤكد أنه لا يمكن التوصل إلى حل مستدام وشامل لحرب غزة بمشاركة القوى الإقليمية وحدها، إذ لا بد من مساهمة كبيرة من أوروبا والولايات المتحدة. وهنا، يمكن لألمانيا من حيث المبدأ أن تلعب دوراً أكثر أهمية في التعاون الوثيق مع اللاعبين الإقليميين مثل دول الخليج والعراق والأردن ومصر. ومع ذلك، كلما اتُهمت ألمانيا بتجاهل المصالح العربية، كلما تضاءلت فرص التعاون البنّاء. ولذا، تحتاج ألمانيا إلى تحديد مصالحها تجاه الشرق الأدنى والشرق الأوسط بدقة من الناحية السياسية. فبدون تعريف واضح للمصالح لا توجد خطة، وبدون أهداف مصاغة بوضوح، فإن التعاون الموثوق مع العالم العربي سيفشل في الغالب. وفي أوقات التصعيد الإقليمي، لا ينبغي النظر إلى هذا النهج على أنه خيار من الخيارات فحسب، بل يجب التعاطي معه على أنه أولوية. وإلا فإن الوضع الكارثي في غزة لن يزداد إلا كارثية، وهذا ليس في مصلحة ألمانيا ولا مصلحة دول العالم العربي.
الدكتور سيباستيان زونس هو باحث أول في مركز البحوث التطبيقية بالتعاون مع الشرق (كاربو) ومقره بون، وخبير في شؤون دول الخليج العربي. وقد حصل على درجة الدكتوراه عن هجرة العمالة من باكستان إلى المملكة العربية السعودية، وهو مؤلف لثلاثة كتب عن دول الخليج العربي، مع التركيز بشكل خاص على العلاقات الخليجية الأوروبية والخليجية الألمانية.